تنمية بشرية

ما هي التنمية البشرية المستدامة

ما هي التنمية البشرية المستدامة

تعتبر قضية التنمية من القضايا الرئيسية التي حظيت باهتمام العلماء والمفكرين على المستويين الإقليمي والعالمي ، وعلى اختلاف انتماءاتهم الأيديولوجية والفكرية ، حيث حاول هؤلاء العلماء تقديم العديد من الاتجاهات النظرية بغية تحليل ظاهرة التخلف وتفسيرها في بلدان العالم الثالث . وكانت هذه النظريات تنتمي إلى مدارس فكرية متباينة طرحت كل منها أفكارها معتقدة أنها تملك مفتاح فهم التخلف والتنمية . كما سيطرت نظرية التحديث Modernization Theoy على كل المعالجات النظرية للتنمية في الفترة ما بين 1960 -1950 م .

وكان الاقتصاديون في طليعة العلماء الذين أقاموا نماذج بسيطة للتنمية ركزت على إشكالية مهمة مؤداها كيف نضمن نمواً اقتصادياً سريعاً وتراكماً لرأس المال ، وقد استخلصوا نماذجهم هذه من خلال خبرتهم واحتكاكهم بالأقطار الغربية . ولكن سرعان ما أدركوا أنها قاصرة ، وليست قادرة على فهم تخلف بلدان العالم الثالث ، لأنها صيغت في ضوء السياق الاجتماعي الثقافي والتاريخي لمجتمعاتهم الغربية ، ذلك السياق الذي يختلف في طبيعته عن السياق الاجتماعي والثقافي والتاريخي للمجتمعات المتخلفة . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن العديد من أصحاب هذه النظريات الغربية يتحيزون إلى النموذج الغربي في التحديث .

هذا فضلاً من أن علماء الاجتماع والسياسة والإدارة العامة وغيرهم من العلماء الاجتماعيين قد تعاونوا أيضاً فيما بينهم لصياغة نظريات سوسيولوجية واجتماعية لتفسير التخلف ، وكانت نماذج التحديث سمة فكرية عند كل العلماء الاجتماعيين بصفة عامة ، والأمريكيين بصفة خاصة. ولم يكن من الغريب أن تنال نظرية التحديث دعماً واهتماماً من العلماء والمفكرين نظراً لأنها تمثل إطارا أيديولوجيا محافظاً ومؤيداً للرأسمالية .

وتتمثل هذه الاتجاهات النظرية في الاتجاه الماركسي ، الاتجاه المثالي ، الاتجاه السيكولوجي أو السلوكي ، اتجاه النماذج أو المؤشرات ، الاتجاه التطوري المحدث ، اتجاه الثنائيات والمتصلات الاجتماعية الثقافية ، الاتجاه الانتشاري ، الاتجاه التكاملي ، اتجاه المكانة الدولية ، الاتجاه الماركــــسي ( الرؤية الكلاسيكية The classic view ) ، الاتجاه الماركسي الجديد ( التنمية كتـــــــحرر مـــــــن التبعية Neo marxism: Dependency ) اتجاه الشعبية الجديدة Neo-Populism واتجاه التنمية البشرية المستدامة ويعد الاتجاه الأخير – اتجاه التنمية البشرية المستدامة – من الاتجاهات الحديثة والمعاصرة .

وهذه الورقة تمثل محاولة علمية تستهدف تسليط الضوء على مفهوم التنمية البشرية ومكوناتها ، كما تتركز هذه الورقة حول محوريين أساسيين ، يتصدى المحـور الأول – إطلالة على مفهومي التنمية البشرية وتنمية الموارد البشرية – لتحديد معنى التنمية البشرية وأوجه الاختلاف بين هذا المفهوم ومفهوم تنمية الموارد البشرية والمفاهيم المرتبطة بها مثل إدارة الموارد البشرية ، وتخطيط الموارد البشرية . أما المحور الثاني – مكونات التنمية البشرية- فيهدف إلى طرح الأفكار النظرية التي يقوم عليها هذا الاتجاه ، وتبيان مكونات التنمية البشرية وأبعادها الأساسية .

مفهوم التنمية البشرية

تعريف التنمية البشرية ، في وسط كل ما يواجه الإنسان في حياته اليومية، وتفاعله مع الآخرين بصورة مستمرة، فإن كل فرد يحتاج باستمرار إلى تنمية مهاراته وقدراته المختلفة، حتى يستطيع أن يقوم بالأعمال والأنشطة التي يكلف بها في مختلف الأصعدة، التنمية البشرية هي العلم الذي يهتم بتطوير وتنمية قدرات وإمكانيات الفرد بصفة دائمة ومستمرة، ما يساعد الإنسان على ممارسة أنشطته المعتادة ، وباعتبار التنمية البشرية أحد أهم الوسائل المعروفة للتنمية، فيمكن اعتبارها علم له قواعد واسس فكرية ينطلق منها مجموعة محددة من الشروط والمعايير والتي ينتج عنها آثار تترتب عليها .

مفهوم التنمية المستدامة وشروط تحقيقها

التنمية بشكل عام هي وضع الخطط اللازم للتطوير في الدول في كافة المجالات، فهناك التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية والتنمية الصحية، ولكن مع محاولة استغلال الموارد الطبيعية وخوفًا من نقص الموارد بشكل عام تم إطلاق مفهوم التنمية المستدامة، وهي التي تسعى إلى الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة من الأطفال والذين لم يولدوا بعد.

بل أن نوضح مفهوم التنمية المستدامة وشروط تحقيقها ينبغي أن نقول أن التنمية المستدامة بمفهومها المتعارف عليه قد تم تطبيقها بالفعل خلال فترة السبعينات، وذلك عندما رأى الخبراء أن هناك استهلاك كبير في المواد الطبيعية الموجودة في الدول، فحاولوا أن يحافظوا على تلك الموارد حيث أن الأجيال القادمة جميعًا لهم أحقية في هذه الموارد، ولذلك كان ينبغي أن يُطبق هذا المبدأ.

فعبر التنمية المستدامة أيضًا ينشب التوازن المفروض بين البيئة المحيطة بالإنسان وبين مكوناتها بشكل عام، وهذا أيضًا يحقق العدالة في استخدام موارد البيئة المختلفة وذلك في جميع المجالات.

أهمية التنمية المستدامة

التنمية المستدامة هي قضية يصعُب التعامل معها وتطبيقها أو حتى التغلّب على العوائق لتحقيقها؛ لأنها تتكون من حُزمة كبيرة من الحيثيّات، ونظراً لطبيعةِ هذا الموضوع وتعقيداته، فمن الأمثل الإلمام بأهميته للوصول إلى فهم وإدراك شامل، والسُّكان هم المرتكز الأساسي الذي يدفع بِعجلة التنمية المستدامة إلى الأمام، وبهذا تظهر أهمية التنمية المستدامة متمثّلة بما يأتي:

  1. توفير الاحتياجات الإنسانية الرئيسية: مثل المأوى، والطعام، والماء وذلك باستعمال الطاقة المتجددة والمُستدامة كبديل عن الطاقة المعتمدة على الوقود الأحفوري.
  2. المتطلبات الزراعية: استخدام طرق الزراعة المُستدامة مثل تقنية زرع البذور (البِذار) الفعّالة، وتقنية تناوب المحاصيل، حيث تساهم هذه التقنيات في تقليل تآكل التربة، والحفاظ على صحتها، وزيادة خصوبتها من الناحية الإنتاجية.
  3. إدارة تقلٌّب المناخ: تسعى منهجية التنمية المستدامة إلى الحد من استخدام مصادر الوقود الأحفوري، مثل: النفط، والغاز الطبيعي، والفحم فهي تؤثر على المناخ وتبعث الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
  4. التوازن والإستقرار المالي: يمكن تحقيق الثبات المالي من ممارسات التنمية المستدامة، فتطوير تقنيات الطاقة المتجددة يمكنه خلق فرص عمل مستمرة كبديل عن الوظائف المقيَّدة بتكنولوجيا مصادر الوقود الأحفوري.
  5. حماية التنوّع البيولوجي: ممارسات هذا النوع من التنمية الدائمة تشجع الاستثمارفي موارد الطاقة المتجددة واستخدامها، فممارسات الزراعة العضوية التي لا تنبعث منها أيُّ غازات دفيئة في الغلاف الجوي تُحافظ على التنوّع النباتي، وتحدّ من تلوث الهواء.

كيفية تحقيق التنمية المستدامة

حينما تصنف التنمية المستدامة بانها عملية تطوير الارض والمجتمع والاعمال التجارية، شريطة ان تلبي احتياجات الحاضر من دون المساس بقدرة وامكانيات المستقبل والاجيال القادمة، من خلال الموازنة بين ثلاثة عناصر او ركائز، تتضمن المجتمع والبيئة والربح، فانها تعتبر مطلبا ومطمحا لكل المجتمات .
واذا كان تعريف لجنة ( برتلاند ) الاكثر شيوعا للتنمية المستدامة عدّها انها كل ما يحقق حاجة الاجيال الحاضرة من دون المساس بقدرة الاجيال اللاحقة، فان تحقيق الرخاء الاقتصادي من دون ان يطغى على الادارة الفاعلة للبيئة، او على اعضاء المجتمع الذين يشملون الموظفين والمجتمعات المحلية، يعتبر غاية وهدف تلك العملية، بعد ان تؤخذ جميع هذه العناصر بالحسبان في الوقت نفسه .
لذا فان التنمية المستدامة تتطلب تحسين ظروف المعيشة لجميع ابناء المجتمع، من دون استثناء ومن دون زيادة في استخدام او هدر الموارد الطبيعية الى ما يتجاوز قدرة تحمل البيئة، من خلال زيادة معدلات النمو الاقتصادي وحفظ الموارد الطبيعية والبيئية والتنمية الاجتماعية .
واذا كان الفقر وعملية الحد منه او القضاء عليه، يعتبر من اهم التحديات التي تواجهها التنمية المستدامة، فانها تواجهه بالتشجيع على اتباع أنماط جديدة وحديثة للانتاج والاستهلاك يربطها ( التوازن ) من دون الافراط في الاعتماد على الموارد الطبيعية.
واذا كانت التنمية المستدامة هدف الشعوب النامية السائرة في ركب التنمية والتطور، والعراق جزء من هذه المجتمعات، فانه ما زال يعاني من الافراط في الاعتماد على الموارد الطبيعية ( النفط ) واستثمارها بشكل احادي، من دون مراعاة للركائز الثلاث مارة الذكر، بل بالتعامل معها كلا على انفراد من دون تحقيق التوازن بينها.
واذا كانت الخطط التنموية التي طبقت خلال الفترة الماضية خمسية او اكثر، تراعي المشاكل المطروحة والعاجلة، من دون النظر بعيدا في المعوقات والمشاكل التي قد تظهر او تواجه الشعب او اجياله القادمة، فان كل ما تقدم يجعل من عملية التنمية في العراق بحاجة ضرورية لمراجعة شاملة ودقيقة، وصولا الى البحث الموضوعي السليم في اهداف التنمية المستدامة، في بيئة غنية بالموارد الغزيرة التي يتمتع بها الوطن، ومجتمع فتي وقدرات عالية وامكانيات بشرية شابة وعلمية وتخطيطية، تصل الى الهدف المطلوب، وبالطريق الاسرع والايسر اكثر من اي بلد اخر.

الفرق بين التنمية والتنمية المستدامة

يعد كل من النمو والتنمية المستدامة من المصطلاحات المرتبطة مع بعضها البعض، وعادة ما يتم استخدامهم بجانب بعضهم، ولكن في الوقت نفسه نلاحظ أن مفهوم النمو يختلف بصورة واضحة عن التنمية المستدامة ولكن يعتمد كل منهما على الأخر، فهم على صلة وثيقة مع بعضهم البعض، كما أنه من الجدير ذكره أيضًا أن النمو والتنمية المستدامة يعتبروا من الدراسات المهمة والضرورية بالعصر الحديث، ويمثل كل منهما جانب أساسي وهام في جميع أمور حياتنا المختلفة.

المقصود بالنمو

يقصد به تغير في جميع الجوانب المادية المختلفة، وهو يعد عملية خلوية تتوقف خلال مرحلة الإكتفاء منه، ويمثل جانب مهم من التنمية وهناك نوعان من النمو وهما كل من النمو الكمي والنوعي وينبغي أن يتم قياسه بصورة دقيقة، ومن الملاحظ أن هناك أيضًا ما يسمى بالنمو البشري والنمو الإقتصادي وغيرها من أنواع النمو الأخرى، التي تقوم على فكرة النمو نفسه.

ومن الجدير ذكره أن النمو البشري يعتمد بصورة أساسية على كافة الأحداث البيولوجية المختلفة التي يترتب عليها نمو الجسم بصورة طبيعية خلال المراحل الأولى من حياتنا، بينما النمو الإقتصادي فهو عبارة عن مصطلح يستخدم من أجل التعبير عن مستوى الزيادة بالبلاد، وعلى وجه التحديد يشير للتقدم الإقتصادي بدرجة كبيرة وزيادة كبيرة في مستوى الناتج القومي، كما يقصد به أيضًا زيادة بنوعية الموارد وبكميتها وكذلك بالتطورات التكنولوجية المختلفة، كما يقصد بالنمو الإقتصادي أيضًا زيادة كبيرة وملحوظة بقيمة كل من السلع والخدمات المختلفة التي تقوم جميع القطاعات المختلفة بإنتاجها.

ويسهل قياس النمو الإقتصادي عن طريق الزيادة بالناتج المحلي الإجمالي لدولة ما، وفي حالة زيادة هذا الناتج فهذا يشير بالتأكيد إلى التقدم الإقتصادي لهذه الدولة ويدل ذلك أيضًا على إنتعاش المعدلات الإقتصادية لها، بينما في حالة إذا كان هذا الناتج صغير فهذا يدل على أن هذه الدولة تعد واحدة من الدول النامية.

المقصود بالتنمية المستدامة

نلاحظ أن التنمية المستدامة تتضمن تطوير وتحديث مجموعة من الأشياء الكثيرة والمختلفة، وتعمل على تحسن شتى الظروف المختلفة بالإضافة لأنها تتضمن أيضًا عملية تحديث وتطوير العمليات المختلفة من أجل تلبية كافة إحتياجات أبناء المجتمع كله بوجه عام، في حين نلاحظ أيضًا أن التنمية البشرية تعد نتاج من أجل تحقيق كل من النمو النفسي والنمو الإجتماعي في الوقت نفسه، وتسعى لتأكيد العوامل البيئية وكذلك السلوكية للفرد كله، ويشير لهذه المرحلة باسم مرحلة النضوج.

بينما من الجدير ذكره أيضًا أن التنمية الإقتصادية تعتبر زيادة كبيرة بمستوى المعيشة وبالدخل القومي وتسعى لتحسين جميع الإحتياجات الخاصة والمتعلقة باحترام الذات وبالتخلص من الظلم ومن كافة أساليبه أيضًا، وبالتالي فهى مفهوم معياري يسعى لتطوير وتحسين جميع ظروف المعيشة المختلفة من أجل زيادة النمو الإقتصادي بطريقة كبيرة، ويتم قياسها عن طريق التعرف على معدلات ونسبة القراءة والكتابة والعوامل الأخرى التي تؤثر بالإنتاجية في دولة ما.

أوجه الإختلاف بين النمو والتنمية المستدامة

على الرغم من أن مصطلح النمو والتنمية المستدامة على صلة وثيقة مع بعضهم البعض ولكن هناك بعض الإختلافات التي تميز كل منهما عن الأخر، فالنمو يعتبر تغيير في مختلف الجوانب المادية للفرد وتغيير أيضًا بالجوانب المادية للمجتمع كله، في حين نلاحظ أن التنمية عبارة عن تغييرات كثيرة وبشكل تدريجي لكل من الفرد والمجتمع.

ومن الجدير ذكره أيضًا أن النمو يعتبر تغيير خلوي يتبع هذا التغيير تغير بالشكل، بينما التنمية تغيير هيكلي، ومن الملاحظ أيضًا أن النمو يتوقف في وقت ومرحلة معينة بينما تظل التنمية مستمرة طوال الوقت كله، ومن الملاحظ أن النمو يعتبر جزء واضح من التنمية، في حين نلاحظ أن العكس ليس صحيح على الإطلاق.

ويوجد أنواع كمية وكذلك نوعية للنمو، بينما نلاحظ أن التنمية لا يوجد منها أي أنواع على الإطلاق، ومن السهل أن نحصل على قياسات دقيقة وبسيطة للنمو في حين لا يمكن أن نحصل على قياس للتنمية بصورة دقيقة على الإطلاق، ومن الملاحظ أنه على الرغم من أن كل من النمو والتنمية المستدامة تعتبر عمليتان مرتبطتان ببعضها البعض حيث يؤثر كل منهما بالأخر، ولكن نلاحظ أن النمو يحدث بالتأكيد حتى في حالة عدم وجود التنمية، ومن السهل أن تحدث التنمية بدون أن يوجد نمو ولكن قد يتطلب النمو التنمية في بعض الأوقات حتى يتمكن من الوصول لجميع أهدافه بكل سهولة ويسر

مقالات عن التنمية المستدامة

الاقتصاد الأخضر: الخيار الطبيعي للتعافي

تعتمد أرزاقنا واقتصاداتنا على الموارد والخدمات التي تتيحها الطبيعة. لذلك فمن شأن تدهور هذه الموارد والخدمات نتيجة الأنشطة البشرية أن يُضعف القدرة الإنتاجية للطبيعة التي يعتمد عليها الاقتصاد لتلبية الاحتياجات الأساسية، ومنها المياه والطاقة والغذاء. وهذا يستدعي أن نتبع نمط عيش أكثر اتزاناً ونساهم في اقتصاد أخضر يضمن حماية البيئة وكرامة الانسان

زراعة الأشجار يمكنها أن تحدّ من الفقر وتبطئ تغيُّر المناخ

تمّ الإعلان مؤخراً عن أزمات إنسانية في السودان واليمن والنيجر ومالي والصومال، وهذه أثّرت على ما لا يقل عن 450.000 شخص، ويعود ذلك إلى الفيضانات والانهيارات الأرضية. ومن المرجح أن تتعرض المناطق ذات التغطية الشجرية المنخفضة ونوعية التربة السيئة للفيضانات والجفاف، حيث ان التربة أقل قدرة على الاحتفاظ بمياه الأمطار الغزيرة.

خاتمة عن التنمية المستدامة

مع تنامي اهتمام وسائل الإعلام بالقضايا البيئية أصبح الرأي العام أكثر اهتمامًا بإيجاد حلول لمشاكل من قبيل انقراض الكائنات الحية، والتغير المناخي، والتلوث، والعمل على خلق مجتمع مستدام بيئيًا. وقد بدا واضحًا لهذه الدراسة أن عملية التحول إلى التنمية المستدامة لحماية المجال الحيوي للأرض تتطلب جهود كل المجتمع الإنساني فهي مطلب مبرمج ويجب أن ينجز من قبل الجميع وبلا استثناء. ولذا لابد من الانطلاق من النتيجة التي خلص إليها تقرير نادي روما بعنوان The First Global Revolution، الذي تبنى كتَّابه النظرة القائلة إن مشكلة التنمية الحالية هي في حالات عديدة متداخلة وأكدوا فيه أن مشاكل البيئة، والطاقة، والسكان، والتنمية، ومصادر الغذاء، تمثل قضايا متداخلة ضمن إطار المشاكل الكونية، وأن جوهر تلك المشاكل يتمثل في حالة عدم التيقن تجاه مستقبل الإنسانية. ونظرًا لأهمية التداخل بين تلك المشاكل، فإنه لا معنى لمواجهة كل عنصر منها منفردًا، بل لابد من مواجهة متزامنة لكل تلك المشاكل في إطار إستراتيجية دولية منسقة، وأن نجاح أو فشل أول ثورة كونية يعتمد بشكل حاسم على هذا الأمر. فعلى سبيل المثال لا يمكن إيجاد حل ملائم للأزمة السكانية في العالم إلا إذا تم إيجاد حل ملائم لظاهرة الفقر المتفاقمة، كذلك ستستمر ظاهرة انقراض الكائنات الحية من حيوان ونبات بمعدلات مريعة طالما بقي العالم النامي غارقًا في الديون، وفقط عندما يتم وقف تجارة السلاح الدولية يمكن أن تتوفر للعالم الموارد اللازمة لإيقاف التدهور الخطير للمجال الحيوي والحياة الإنسانية. وفي الحقيقة فإنه كلما درسنا وحللنا الموقف كلما زاد إدراكنا في نهاية الأمر بأن المشاكل البيئية المتعددة ليست إلا وجوه مختلفة لأزمة واحدة ووحيدة، هي، بالتأكيد، أزمة إدراك تنبع من حقيقة أن معظم الناس وخاصة المؤسسات الاجتماعية الكبيرة في الدول المتقدمة تتبنى مفاهيم (لم تعد ملائمة لمعالجة مشاكل عالم اليوم) نموذج الحداثة الذي هيمن على الثقافة الصناعية الغربية لقرون من الزمن تمكن خلالها من صياغة المجتمع الحديث وأثر بشكل كبير في كل أنحاء العالم من خلال فرضه لعدد من الأفكار والقيم كالنظرة للعالم كنسق أو نظام ميكانيكي مؤلف من عناصر بناء أولية، والنظرة لجسم لإنسان كآلة، والنظرة للحياة في المجتمع كصراع تنافسي من أجل البقاء، والإيمان بالقدرة على تحقيق تقدم مادي غير محدود من خلال النمو الاقتصادي والتقني.

فضلاً عن ذلك لا يزال كثير من المفكرين الغربيين ينظرون للتنمية المستدامة بطريقة براغماتية لا على أنها وسيلة لتحقيق توازن استراتيجي بين الطبيعة والمجتمع وإنما كمحاولة لإزالة جزء من التوتر في العلاقة المتداخلة بين الحضارة وبيئتها. وبرغم أن مجرد نضال المجتمع العالمي للانتقال من مرحلة النقاش النظري حول الكارثة البيئية إلى مرحلة وضع خطط عملية نحو إزالة ذلك التوتر يمثل جانبًا ايجابيًا، إلا أنه يجب في نفس الوقت الاعتراف بأن غياب فهم أو رؤية واضحة حول التوجه العام لحركة الحضارة في المستقبل يمثل جانبًا سلبيًا من مشروع التنمية المستدامة.

من هذا المنطلق، ترى هذه الدراسة أن العالم بحاجة إلى تنمية مستدامة ومتوازنة تركز مبدأ الوقاية بدلاً من العلاج. وهذا يعني أن الاستدامة ليست فقط مسألة بيئية، بل أنها تتعامل مع التغيرات والمشاكل في المجالات الزراعية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية، مما دفع بعض المهتمين بهذا الشأن أن يطلقوا على حركة الاستدامة هذه “الثورة البيئية” مقارنة لها بالثورتين الزراعية والصناعية اللتين كان لهما تأثيرًا تاريخيًا هائلاً على الثقافة الإنسانية الكونية[5].

ولذا فإن الاستدامة هي فلسفة برؤية جديدة للبحث عن بناءات اجتماعية، ونشاطات اقتصادية، وأنماط إنتاجية واستهلاكية، وتقنيات تعمل على استدامة البيئة وتمكين الجيل الحالي وتحسين حياته وضمان حياة ملائمة للأجيال القادمة. ولتحقيق ذلك لابد من إعادة صياغة النشاطات الحالية أو ابتكار أخرى جديدة ثم العمل على دمجها في البيئة القائمة لخلق تنمية مستدامة على أن تكون مقبولة ثقافيًا، وممكنة اقتصاديًا، وملائمة بيئيًا، وقابلة للتطبيق سياسيًا، وعادلة اجتماعيًا. ومن ثم فإنه من الملائم البدء مباشرة في تبني عدد من الممارسات الداعمة لاستدامة البيئة، ومنها:

  1.  استهلاك الموارد باعتدال وكفاءة ومراعاة الأسعار الأفضل للموارد، والاستخدام الأكثر كفاءة للموارد، والأطر الزمنية لاستبدال الموارد غير المتجددة بموارد بديلة، والاستخدامات البديلة المحتملة للموارد.
  2.  عدم استهلاك الموارد المتجددة بوتيرة أسرع من قدرتها على التجدد أو بطريقة يمكن أن تؤذي البشر أو النظم الداعمة للحياة على الأرض وخاصة تلك التي ليس لها بدائل.
  3.  التوسع في مجال الاعتماد على الطاقة النظيفة المتجددة كالطاقة الشمسية والطاقة المائية وطاقة الرياح.
  4.  استخدام الفضلات التقليدية كموارد قدر الإمكان مع التخلص منها عند الحاجة وبطريقة لا تضر بالبشر ونظم دعم الحياة على الأرض.
  5.  النضال من أجل التخلص من المبيدات السامة والمخصبات الكيميائية وخاصة تلك التي تعتبر ضارة بالبيئة.
  6. استخلاص منتجات النسق البيئي كما في الزراعة، والصيد، والاحتطاب بدون الإضرار برأس المال الطبيعي.
  7. تشجيع المرونة والكفاءة في كل من النسقين الإنساني والطبيعي من خلال تفضيل البستنة المتجددة، والمتنوعة، والمعقدة على تلك المتسمة بالتجانس والبساطة.
  8.  تفضيل الفلاحة التعددية (زراعة الأرض بمحاصيل متعددة) polyculture على الفلاحة الأحادية (الاكتفاء بزراعة محصول واحد) monoculture للإبقاء على خصوبة التربة، فضلاً عن تفضيل زراعة النباتات طويلة العمر على السنوية منها في أنساق الإنتاج البيولوجي قدر الإمكان (كالفرت وكالفرت 2002: 138).
  9.  إعادة تأهيل البيئات المتدهورة قدر المستطاع من خلال وسائل التحكم أو بخلق ظروف ملائمة لعمليات إعادة الإصلاح الطبيعي.
  10.  تشجيع ودعم عمليات إعادة تدوير النفايات.
  11. تبني مبدأ تغريم الملوث من خلال سن تشريعات عقابية على المستويات المحلية والقومية والدولية.

وختامًا نعود إلى التأكيد على أنه برغم أن مفهوم التنمية المستدامة قد لقي قبولاً واستخدامًا دوليًا واسعًا منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي إلا أن العالم لم ينجح حتى الآن في تبني خطوات حقيقية جادة على طريق الاستدامة الحقيقية نحو التوفيق بين تلك التناقضات بين التنمية والبيئة الناتجة عن نموذج التنمية المهيمن منذ منتصف القرن العشرين مما يجعل البشرية تواجه مستقبلاً محفوفًا بالمخاطر وعدم التيقن. ومن هنا، تخلص هذه الدراسة إلى أن التحول نحو الاستدامة المنشودة لا يبدو ممكنًا بدون حدوث تغير رئيس وجذري على مستوى النموذج المعرفي السائد بعيدًا عن قيم الحداثة، والاستعلاء، والاستغلال المتمركز حول الإنسان باتجاه بلورة نموذج معرفي جديد يتصف بالشمول ولا يتمركز حول الإنسان وينظر للعالم كوحدة كلية مترابطة بدلاً من أن يكون مجموعة متناثرة من الأجزاء، ويمكن من خلاله دمج جهود التنمية المستدامة وجهود الحفاظ على البيئة بطريقة مفيدة للطرفين من أجل الصالح العام للجيل الحالي والأجيال القادمة على السواء، وأن يكون ذلك التحول مصحوبًا باهتمام بالبناءات السياسية الاجتماعية التي يمكن أن تكون أكثر دعمًا للاستدامة. وأخيرًا نرجو أن تسهم هذه الدراسة في استثارة مزيد من النقاش والدراسات حول أهمية الفكر والسياسة في البحث عن طريق ممكن تجاه الاستدامة.

 

 

السابق
اختبار الحمل المنزلي ، بعض الحقائق
التالي
طريقة فحص الحمل بالكلور و الملح بالصور

اترك تعليقاً