أدبيات

الفيلسوف بارون دي مونتسكيو وأعماله الفلسفية

كان مونتسكيو أحد أعظم الفلاسفة السياسيين في عصر التنوير، وكان فضوليًا ونهمًا ومضحكًا بشكل لا يطاق وقام ببناء حساب طبيعي لمختلف أشكال الحكومة والأسباب التي جعلتها على ما هي عليه والتي دفعت أو قيدت تنميتها، واستخدم هذا الحساب لشرح كيف يمكن حماية الحكومات من الفساد، ولقد رأى الاستبداد على وجه الخصوص على أنّه خطر دائم على أي حكومة ليست استبدادية بالفعل وجادل بأنّه يمكن منعه بشكل أفضل من خلال نظام تمارس فيه الهيئات المختلفة السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية والتي تكون جميع تلك الهيئات ملزمة بها بحكم القانون، كان لنظرية فصل السلطات هذه تأثير هائل على النظرية السياسية الليبرالية وعلى واضعي دستور الولايات المتحدة الأمريكية.

أعمال بارون دي مونتسكيو الفلسفية الكبرى:

أهم عملين لمونتسكيو هما ما يلي:

  1. الرسائل الفارسية.
  2. روح القوانين.

وبالرغم من أنّهما يشتركان هذان العملان في موضوعات معينة وأبرزها الانبهار بالمجتمعات غير الأوروبية ورعب الاستبداد إلّا أنّها مختلفة تمامًا عن بعضها البعض.

حياة الفيلسوف بارون دي مونتسكيو:

ولد تشارلز لويس دي سيكندات بارون دي لا بريدي إي دي مونتسكيو في 19 يناير 1689 في لا بريدي بالقرب من بوردو لعائلة نبيلة ومزدهرة، وتلقى تعليمه في كلية أوراتوريان في جويلي، وحصل على إجازة في القانون من جامعة بوردو عام 1708 وذهب إلى باريس لمواصلة دراساته القانونية.

عند وفاة والده في عام 1713 عاد إلى لا بريدي لإدارة العقارات التي ورثها، وفي عام 1715 تزوج من جين دي لارتيج وهو بروتستانتي ممارس وأنجب منها ابنًا وابنتان، وفي عام 1716 ورث عن عمه لقب (Baron de La Brède et de Montesquieu) ومكتب الرئيس في مورتييه في برلمان بوردو الذي كان في ذلك الوقت هيئة قضائية وإدارية بشكل رئيسي.

على مدى السنوات الإحدى عشر التالية ترأس تورنيل القسم الجنائي في البرلمان حيث استمع إلى الإجراءات القانونية وأشرف على السجون وأدار العديد من العقوبات بما في ذلك التعذيب، وخلال هذا الوقت كان أيضًا نشطًا في أكاديمية بوردو حيث كان على اطلاع دائم بالتطورات العلمية وقدم أوراقًا حول مواضيع تتراوح من أسباب الصدى إلى الدوافع التي ينبغي أن تقودنا لمتابعة العلوم.

في عام 1721 نشر مونتسكيو “الرسائل الفارسية” والتي حققت نجاحًا فوريًا وجعل من مونتسكيو شخصية أدبية شهيرة نشر “الرسائل الفارسية” دون الكشف عن هويته لكن تأليفه كان سراً مكشوفاً، وبدأ يقضي المزيد من الوقت في باريس حيث يتردد على الصالونات ويتصرف نيابة عن البرلمان وأكاديمية بوردو.

خلال هذه الفترة كتب عدة أعمال ثانوية:

  1. حوار سيلا ويقراط (1724).
  2. تأملات في النظام الملكي العالمي (1724).
  3. معبد جنيد (1725).

في عام 1725 باع مصلحته في مكتبه واستقال من البرلمان، وفي عام 1728 تم انتخابه في الأكاديمية الفرنسية، على الرغم من بعض المعارضة الدينية وبعد ذلك بوقت قصير غادر فرنسا للسفر إلى الخارج، وبعد زيارة إيطاليا وألمانيا والنمسا ودول أخرى ذهب إلى إنجلترا حيث عاش لمدة عامين، ولقد تأثر كثيرًا بالنظام السياسي الإنجليزي واستند إلى ملاحظاته عنه في أعماله اللاحقة.

عند عودته إلى فرنسا عام 1731 كان منزعجًا من ضعف بصره فعاد مونتسكيو إلى لا بريدي وبدأ العمل على تحفته روح القوانين، وخلال هذا الوقت كتب أيضًا اعتبارات حول أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم والتي نشرها مجهول في عام 1734، ففي هذا الكتاب حاول العمل على تطبيق آرائه على حالة روما الخاصة وفي القيام بذلك لتثبيط استخدام روما كنموذج للحكومات المعاصرة.

تم دمج أجزاء من الاعتبارات في “روح القوانين” الذي نشره عام 1748 مثل “الرسائل الفارسية”، وكانت “روح القوانين” مثيرة للجدل وناجحة للغاية، وبعد ذلك بعامين نشر دفاعًا عن روح القوانين للرد على منتقديه المختلفين، وعلى الرغم من هذا الجهد وضعت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية روح القوانين على فهرس الكتب المحرمة عام 1751، وفي عام 1755 توفي مونتسكيو بسبب الحمى في باريس تاركًا وراءه مقالًا غير مكتمل عن الذوق لموسوعة (Diderot and D’Alembert).

العمل الروائي الفلسفي الرسائل الفارسية:

الرسائل الفارسية عبارة عن رواية رسالية تتكون من رسائل مرسلة من وإلى اثنين من الفرس الخياليين، وهما أوصبك Usbek وريكا Rica اللذان انطلقا إلى أوروبا في عام 1711 وظلوا هناك على الأقل حتى عام 172 حتى تنتهي الرواية، وعندما كتب مونتسكيو الرسائل الفارسية كانت روايات المسافرين عن رحلاتهم إلى أجزاء غير معروفة حتى الآن من العالم والعادات الغريبة التي وجدوها هناك شائعة جدًا في أوروبا، بينما لم يكن مونتسكيو أول كاتب يحاول تخيل كيف يمكن أن تبدو الثقافة الأوروبية للمسافرين من دول غير أوروبية فقد استخدم هذا الجهاز بذكاء خاص.

تحليل العمل الروائي:

العديد من الرسائل عبارة عن وصف موجز لمشاهد أو شخصيات، ففي البداية تنبع روح الدعابة لديهم في الغالب من حقيقة أن اوصبك وريكا يسيئون تفسير ما يرونه، وهكذا على سبيل المثال كتب ريكا أنّ البابا هو ساحر يمكنه جعل الملك يعتقد أنّ ثلاثة هم واحد فقط وإلّا فإنّ الخبز الذي يأكله المرء ليس خبزًا وأشياء أخرى من نفس النوع، وعندما يذهب ريكا إلى المسرح يخلص إلى أنّ المتفرجين الذين يراهم في الصناديق الخاصة هم ممثلون يسنون تابلوهات درامية لتسلية الجمهور.

في رسائل لاحقة لم يعد اوصبك وريكا يسيئون تفسير ما يرونه، ومع ذلك فإنّهم يجدون تصرفات الأوروبيين غير مفهومة، ويصفون الأشخاص الذين يستهلكهم الغرور لدرجة أنّهم يصبحون سخيفة والعلماء الذين يعمهم اهتمامهم بتفاصيل النصوص عن العالم من حولهم، وعالم يتجمد حتى الموت تقريبًا لأنّ إشعال حريق في غرفته سيتعارض مع محاولته للحصول على قياسات دقيقة لدرجة حرارته.

تتخلل هذه الأحرف الوصفية انعكاسات الفرس على ما يرونه، ويُعطى اوصبك بشكل خاص لمثل هذه التأملات ويشارك مونتسكيو العديد من اهتماماته الخاصة مع التناقض بين المجتمعات الأوروبية وغير الأوروبية ومزايا وعيوب أنظمة الحكم المختلفة وطبيعة السلطة السياسية والدور المناسب للقانون، ويبدو أيضًا أنّه يشارك العديد من آراء مونتسكيو.

ويقول إنّ أفضل حكومة هي “التي تحقق هدفها بأقل قدر من المتاعب” و”تتحكم في الرجال بأفضل طريقة تتلاءم مع ميولهم ورغباتهم”، ويشير إلى أنّ الفرنسيين قد تأثروا بحب الشرف لطاعة ملكهم ويقتبس موافقة على الادعاء القائل بأنّ هذا “يجعل الفرنسي عن طيب خاطر وبسرور يفعل أشياء لا يستطيع سلطانك إخراجها من رعاياه إلّا من خلال التحريض المستمر المكافآت والعقوبات”.

وبينما يدرك جيدًا أهمية القوانين العادلة فإنّه يعتبر الإصلاح القانوني مهمة خطيرة لتكون محاولة خوفها وارتجافها فقط، وإنّه يفضل التسامح الديني ويعتبر محاولات إجبار المعتقد الديني على أنّها غير حكيمة وغير إنسانية، وفي هذه التأملات يبدو أنّ اوصبك مراقب مدروس ومستنير مع التزام عميق بالعدالة.

تحليل شخصية أوصبك (Usbek):

ومع ذلك فإنّ أحد الموضوعات العظيمة في الرسائل الفارسية هو الاستحالة الافتراضية لمعرفة الذات وأوصبك هو التوضيح الأكثر تحقيقًا لها، حيث ترك أوصبك وراءه حريمًا في بلاد فارس يتم فيه حبس زوجاته من قبل عبيده، كل من زوجاته وعبيده يمكن أن يتعرضوا للضرب أو التشويه أو القتل بأمر منه كما يمكن لأي شخص غريب أن يضع عينيه عليهم.

وبعبارة أخرى فإنّ أوصبك هو طاغية في بيته، ومنذ البداية عذب بفكر خيانة زوجاته، ويكتب أنّه لا يحب زوجاته ولكن كما قال “من افتقاري للشعور جاء غيره سرية تلتهمني”، ومع مرور الوقت تتطور المشاكل في السراج (الحريم) أي بين زوجات أوصبك ويتخاصمن مع بعضهن البعض، ويجد العبيد صعوبة متزايدة في الحفاظ على النظام.

في النهاية ينهار الانضباط تمامًا حيث يبلغ الزعيم العبيد هذا إلى أوصبك ثم يموت فجأة، ومن الواضح أنّ بديله مطيع ليس لأوصبك بل لزوجاته أي إنّه يبتكر ألّا يتلقى أيًا من رسائل اوصبك، وعندما يتم العثور على شاب في الحريم كتب: “قمت وفحصت الأمر ووجدت أنّها رؤية “، وهنا أوصبك يأمر عبدًا آخر بإعادة النظام فقال: “اترك الشفقة والحنان وراءك، واجعل حرمي كما كان عندما تركته، حيث ابدأ بالكفارة أي أبيد المجرمين، واضرب الرهبة لأولئك الذين فكروا في ذلك وهناك لا شيء لا يمكنك أن تأمل في الحصول عليه من سيدك مقابل هذه الخدمة المتميزة “.

أخيرًا تم العثور على روكسانا زوجة اوصبك المفضلة والوحيدة التي يثق بفضيلتها مع رجل آخر، فقتل عشيقها وانتحرت بعد أن كتبت لأوسبك رسالة لاذعة تسأل فيها: “كيف كنت تعتقد أنني ساذجة بما يكفي لتتخيل أنني كنت في العالم فقط لأعبد نزواتك؟ هذا بينما سمحت لنفسك، كل شيء كان لك الحق في إحباط جميع رغباتي؟ وبهذه الرسالة تنتهي الرواية.

تحليل شخصية ريكا (Rica):

أما ريكا شخص ودود ومحبوب لكن هذا يرجع إلى حد كبير إلى حقيقة أنّه نظرًا لأنّه ليس لديه مسؤوليات لم يتم اختبار فضيلته بجدية، وعلى الرغم من كل ما يبدو من تنوير وإنسانيته فقد تبين أنّه وحش لا تجلب له قسوته السعادة ويدركه هو نفسه حتى عندما يقرر إلحاقه بها، ويتعلم عبيده غير القادرين على الأمل في الحرية أو السعادة والاستمتاع بتعذيب اتهاماتهم، كما أنّ زوجاته في الغالب ويعترفون بالحب أثناء التآمر.

تحليل شخصية ريكا

(Roxana):

الشخصية الوحيدة المثيرة للإعجاب في الرواية هي روكسانا لكن المؤسسات الاجتماعية في بلاد فارس تجعل حياتها لا تطاق أي أنّها هي منفصلة عن الرجل الذي تحبه وأجبرت على العيش في عبودية، ويتم تقديم انتحارها على أنّه عمل نبيل ولكن أيضًا كإتهام للمؤسسات الاستبدادية التي تجعله ضروريًا.

يعتبر كتاب “الرسائل الفارسية” من أطرف الكتب التي كتبها فيلسوف كبير ومن أكثر الكتب كآبة، وإنّه يقدم الفضيلة ومعرفة الذات على أنّها غير قابلة للتحقيق تقريبًا، وتقريبًا كل الأوروبيين في الحروف الفارسية سخيفون، ويبدو أنّ معظم أولئك الذين لا يظهرون فقط بمثابة الناطق بلسان آراء مونتسكيو الخاصة.

السابق
الفلسفة السياسية لمفهومي الحرية والدين لمونتسكيو
التالي
فلسفة مونتسكيو بالقانون والتجارة

اترك تعليقاً