تتم مناقشة أهمية وطبيعة قيمة الاستقلالية داخل الفلسفة والنظرية السياسية، ولكنها تتشابك بشكل عام مع الحق في متابعة مصالح الفرد دون قيود لا داعي لها، وتتعلق المناقشات حول قيمة الاستقلالية بمدى هذا الحق وكيف يمكن اعتباره متوافقًا مع الاحتياجات الاجتماعية.
الحكم الذاتي والليبرالية السياسية:
تُفهم الليبرالية عمومًا على أنّها نشأت تاريخيًا من تقليد العقد الاجتماعي للفلسفة السياسية، وبالتالي فهي تستند إلى فكرة السيادة الشعبية، ومفهوم الاستقلالية إذن يظهر بشكل مركزي في خيط مهيمن واحد على الأقل في هذا التقليد الخيط الذي يمر عبر عمل الفيلسوف إيمانويل كانط.
ترى النسخة البديلة الرئيسية للتقليد الليبرالي السيادة الشعبية على أنّها تعبير جماعي عن الاختيار العقلاني وأنّ مبادئ المؤسسات الأساسية للسلطة السياسية هي مجرد وسيلة لتعظيم الرفاهية الإجمالية للمواطن، أو كما هو الحال مع الفيلسوف جون ستيوارت ميل، كعنصر تأسيسي من الرفاهية على نطاق واسع.
لكن العلامة التجارية الكانطية الليبرالية هي التي تضع استقلالية الأشخاص في مركز الصدارة، حيث كان يُنظر إلى نظرية الفيلسوف الأمريكي جون راولز للعدالة على أنّها المظهر المعاصر لهذا النهج الكانطي للعدالة، كما أنّه تم تصور العدالة على أنّها تلك المبادئ التي سيتم اختيارها في ظل ظروف اتخاذ قرارات عقلانية غير منحازة أو من وراء حجاب الجهل.
أوضح راولز إنّ الموقف الأصلي الذي سيتم فيه اختيار مثل هذه المبادئ يعكس حتمية كانط الفئوية، أي أنّها أداة يمكن من خلالها للأفراد أن يختاروا المبادئ التي يفرضونها على أنفسهم بطريقة مستقلة عن احتمالات الموقف الاجتماعي أو العرق أو الجنس أو تصور الخير، ولكن كما هو معروف جيدًا فإنّ الأسس الكانطية لنظرية راولز للعدالة جعلتها عرضة للاتهام، بحيث أنّها غير قابلة للتطبيق على هؤلاء السكان (جميع السكان المعاصرين في الواقع) حيث تكثر التعددية الأخلاقية العميقة.
في ظل هذه الظروف لا يمكن لأي نظرية للعدالة تستند إلى مفهوم ميتافيزيقي عن الشخص أن تدّعي الولاء الكامل لأفراد من السكان الذين يتسبب تنوعهم العميق في اختلافهم حول الميتافيزيقيا نفسها، وكذلك حول الأطر الأخلاقية ومفاهيم القيمة ذات الصلة إليها، ولهذا السبب طوّر راولز فهمًا جديدًا لأسس نسخته من الليبرالية وهو مفهوم سياسي.
ففي ظل الليبرالية السياسية يُفترض استقلالية الأشخاص، وليس باعتبارها حقيقة تستند إلى أسس ميتافيزيقية حول الشخصية الأخلاقية أو السبب العملي على هذا النحو، بل كأحد أدوات التمثيل العديدة التي يمكن من خلالها للمواطنين المتنوعين التركيز على أساليب الاشتقاق مثل الموقف الأصلي للمبادئ الموضوعية للعدالة، حيث تتحقق العدالة فقط عندما يمكن الوصول إلى إجماع متداخل بين الناس تحركه وجهات نظر أخلاقية شديدة الاختلاف ولكن معقولة وشاملة، وهو إجماع يستطيع فيه هؤلاء المواطنون تأكيد مبادئ العدالة من خلال تلك الآراء الشاملة.
تعمل الليبرالية السياسية على تحويل التركيز من المفهوم الفلسفي للعدالة المصاغ بشكل تجريدي والمقصود منه التطبيق عالميًا، إلى المفهوم العملي للشرعية حيث يتم التوصل إلى الإجماع دون التظاهر بجذور ميتافيزيقية عميقة للمبادئ المعنية، وأكثر من مجرد طريقة مؤقتة للأطراف المشاركة، كما يجب تأكيد العدالة بطريقة تجد أساسًا أخلاقيًا لجميع المواطنين المشاركين، وإن كان ذلك من أطر مختلفة للقيمة والالتزام الأخلاقي.
إذن فإنّ عملية العقل العام هي بمثابة الوسائل التي يمكن من خلالها إنشاء مثل هذا الإجماع، وبالتالي يجب النظر إلى المناقشة العامة والمؤسسات الديمقراطية على أنّها جزء أساسي من تبرير مبادئ العدالة وليس مجرد آلية لتقرير جماعي للصالح الاجتماعي.
ولكن لا ينبغي التقليل من دور الاستقلالية في تحديد هذه الصورة، أو تجاهل الخلافات التي تدعو إليها، لأنّ مثل هذا الإجماع يعتبر شرعيًا فقط عندما يتحقق في ظل ظروف التأكيد الحر والصادق للمبادئ المشتركة، وفقط إذا رأى المواطنون أنفسهم قادرين تمامًا على تأييد أو رفض هذه المبادئ المشتركة بشكل انعكاسي، والقيام بذلك بكفاءة ومع المعلومات الكافية ومجموعة من الخيارات، ويمكن للإجماع السياسي المتداخل أن يتخطى الديناميكيات الإستراتيجية البحتة لطريقة مؤقتة، ويؤسس المؤسسات الشرعية للسلطة السياسية.
في الواقع فإنّ الافتراض بأنّ جميع الخاضعين للسلطة السياسية يتمتعون بالقدرة المتطورة على قبول مسار حياتهم بشكل انعكاسي، والقيم المتأصلة فيه يستدعي مستوى من المثالية التي تتناقض مع ظروف العديد من ضحايا الاضطهاد الماضي والمستمر، وهذا يضمن عمليًا أنّ مثل هذه الظروف الهيكلية للمجتمع مثل الهيمنة العرقية وعدم المساواة العميقة في السلطة، وأنماط إقصاء الجماعات من مكانة متساوية في الفضاء الاجتماعي سوف يُفترض أنّها غير ذات صلة بمسألة الشرعية.
لذلك فإنّ الظروف الاجتماعية التي تعيق التمتع المتساوي بالقدرات للنظر بشكل انعكاسي وإذا لزم الأمر ترفض مبادئ العدالة الاجتماعية، على سبيل المثال بسبب الفقر المدقع والإعاقة والظلم المستمر وعدم المساواة أو ما شابه تقيد إنشاء مبادئ عادلة، فالاستقلالية إذن بقدر ما يختار هذا المفهوم الخيار الانعكاسي الحر الذي يعمل في تأسيس الشرعية، هو أمر أساسي ويفترض مسبقًا حتى هذه المفاهيم غير التأسيسية (السياسية) للعدالة.
نشأ نقاد الليبرالية السياسية من عدة جهات، ومع ذلك من بين الاعتراضات على ذلك التركيز على الاستقلالية تلك التي تتساءل عما إذا كان المفهوم السياسي للشرعية الذي يرتكز على القيم المشتركة، والذي يمكن أن يستمر دون صحة تلك القيم التي يُنظر إليها على أنّها موضوعية أو أساسية إلى حد ما، وهو موقف يتعارض مع التعددية المزعومة لليبرالية السياسية، وبخلاف ذلك لا يمكن أن يُتوقع من المواطنين ذوي وجهات النظر المتضاربة بشدة أن يؤكدوا قيمة الاستقلالية إلّا كمجرد طريقة مؤقتة.
سيكون أحد خطوط الاستجابة لهذا القلق الذي يمكن متابعته هو ذلك الذي ادعى أنّ القيم التي ترقى إلى الاستقلال الذاتي (في بعض المفاهيم لهذه الفكرة)، تعمل بالفعل في الهياكل الاجتماعية والممارسات الثقافية للممارسات الديمقراطية، والتي يمكن الدفاع عنها بطريقة أخرى، وكذلك بعض المشاريع الحرجة التي تؤكد على القهر والهيمنة.
الليبرالية وعلاقتها بالاستقلالية لدى الفيلسوف فورست:
يمكن أن يساعد التعرف على المستويات المختلفة للحكم الذاتي في المجال السياسي ككل في توضيح ما هو على المحك، وتجنب الحسابات أحادية الجانب للاستقلالية أو الذات المستقلة، حيث يحدد الفيلسوف الألماني راينر فورست خمسة مفاهيم مختلفة للاستقلالية يمكن دمجها في حساب متعدد الأبعاد.
الأول هو الاستقلالية الأخلاقية حيث يمكن اعتبار الفاعل مستقلاً طالما أنّه يتصرف على أساس أسباب تأخذ كل سلطة أخرى في الاعتبار على قدم المساواة، والتي تكون مبررة على أساس قواعد ملزمة بشكل متبادل وعمومية، وعلى الرغم من أنّ هذا هو معيار شخصي إلّا أنّه وثيق الصلة بالسياسة، وكما يقول فورست لأنّه يعزز الاحترام المتبادل المطلوب للحرية السياسية.
تتعلق الاستقلالية الأخلاقية برغبات الشخص في السعي وراء الحياة الجيدة، وفي سياق قيم الشخص والتزاماته وعلاقاته ومجتمعاته، وبالتالي فإنّ الاستقلالية القانونية هي الحق في عدم الإجبار على مجموعة معينة من القيم والالتزامات وهي محايدة تجاهها، ويتعلق الاستقلال السياسي بالحق في المشاركة في الحكم الذاتي الجماعي الذي يمارس مع الأعضاء الآخرين في المجتمع المعني.
أخيرًا تتعلق الاستقلالية الاجتماعية بما إذا كان لدى الوكيل الوسائل ليكون عضوًا متساويًا في هذا المجتمع، ويساعد الاهتمام بالاستقلالية الاجتماعية على إظهار مسؤولية أفراد المجتمع في مراعاة احتياجات بعضهم البعض، وتقييم الهياكل السياسية والاجتماعية من حيث ما إذا كانت تعمل على تعزيز الاستقلالية الاجتماعية لجميع الأعضاء.
كما يجادل فورست بأنّ المواطنين أحرار سياسيًا إلى الحد الذي يصبحون فيه، وبصفتهم مانحين للحرية ومستخدمين للحرية، وأعضاءً مستقلين أخلاقياً وقانونياً وسياسياً واجتماعياً في مجتمع سياسي، وبالتالي يجب أن تكون الحقوق والحريات مبررة ليس فقط فيما يتعلق بمفهوم واحد للاستقلالية ولكن بفهم معقد لما يعنيه أن تكون شخصًا مستقلاً.