مشكلة الحرية هي القوة الدافعة وراء العقد الاجتماعي، ففي حالة الطبيعة يتمتع الناس بالحرية الجسدية مما يعني أنّ أفعالهم ليست مقيدة بأي شكل من الأشكال لكنهم ليسوا أكثر من حيوانات وعبيد لغرائزهم ودوافعهم، ولكن في معظم المجتمعات المعاصرة يفتقر الناس حتى إلى هذه الحرية الجسدية، حيث إنّهم ملزمون بطاعة ملك أو حكومة مطلقة ليست مسؤولة أمامهم بأي شكل من الأشكال.
مطالبة روسو بالتوفيق بين الحرية والسلطة:
يتمثل اقتراح روسو الرئيسي في أنّ الحرية والسلطة يمكنهما تحقيق المصالحة في جمهورية مثالية من خلال طاعة الناس لما يعرف لدى روسو بالإرادة العامة، وهذا الافتراض هو تعبير سيء السمعة ومتناقض بشكل متعمد في المجلد الأول. في الفصل السابع من “العقد الاجتماعي” ، كتب روسو عن المواطنين الذين “أُجبروا على التحرر” عندما أُجبروا على الالتزام بالإرادة العامة حيث كانت الجملة الافتتاحية من العقد الاجتماعي نفسها تعبر عن الحرية في مقولة الحرية الشهيرة: “يولد الإنسان حراً لكنه في كل مكان مقيد بالسلاسل”.
ومع ذلك بعد هذا التصريح الذائع تقريبًا ظهر تعليق متناقض مع نفسه أعلن بموجبه روسو أنّه يمكن قانونًا جعل هذا الرأي “ملزمًا وقيد بالسلاسل”، قد يكون للوهلة الأولى أنّ التزام روسو بالحرية ولكن تظهر في نصوص عديدة من الكتاب أفكار وأبرزها أنّه أعلن أنّ أولئك الذين يطيعون الإرادة العامة “مجبرون على التحرر”.
قيمة الحرية هي جوهر تركيز روسو في عمله، وذلك بالنظر إلى أنّه يستخدم المفهوم بعدة طرق مختلفة فمن الضروري التمييز بين عدة استخدامات للمصطلح لأنه يجب أولاً الإشارة إلى أن روسو يعتبر القدرة على الاختيار لذلك فإن القدرة على مقاومة الغرائز والميول هي إحدى الخصائص التي تميز الإنسان عن الحيوانات وتجعل السلوك الأخلاقي ممكنًا، على سبيل المثال في عمله أصول اللامساواة وصف أنواع الحيوانات بمصطلحات ومفاهيم ديكارتية كآلية إجرائية لأنماط السلوك الثابتة.
من ناحية أخرى لا يرتبط البشر بأي طريقة معينة للحياة ويمكنهم رفض الدوافع الغريزية، مما يجعل من الممكن للبشر أن يتطوروا ويسقطوا من النعمة، لأنّ الأفراد يمكنهم تجاهل الدوافع الحميدة (مثل التعاطف pitié) إذا رغبوا في ذلك.
تتعارض حرية الفعل مع “الآلية الحسية” وقوة الإرادة والاختيار، وبالنسبة لروسو فإنّ هذا يتجاوز تمامًا قوانين العالم المادي وبالتالي لا يخضع للتفسير العلمي، في العقد الاجتماعي العلاقة بين حرية الاختيار والأخلاق هي حجته الأساسية ضد الحكومة الاستبدادية، وقد كتب في الكتاب أن التخلي عن الحرية لا يتناسب مع الطبيعة البشرية والتخلي عن الحرية لسلطة الآخرين هو نوع من إنكار كل السلوك الأخلاقي.
مفهوم الحرية الطبيعية لدى روسو:
في الفصل الثامن من كتاب “العقد الاجتماعي” الأول، حاول روسو توضيح ادعائه بأن تشكيل دولة قانونية لا ينطوي على خسارة صافية للحرية، ولكنه في الواقع قدم بعض الادعاءات المختلفة وتشمل المطالبة الجديدة فكرة استبدال نوع من الحرية (الحرية الطبيعية) بنوع آخر من الحرية (الحرية المدنية).
تشمل الحرية الطبيعية الحقوق غير المحدودة لكل الأشياء، وتذكرنا هذه الفكرة بحق الطبيعة الذي قاله هوبز في كتاب ليفياثان، ولأن لكل شخص الحق في حرية كل الأشياء فمن الواضح أنّ هناك الكثير في العالم الذي يحتله أناس مترابطون قد تكون القيمة الفعلية لهذه الحرية مختلفة تقريبًا، هذا لأن قدرة أي شخص على الحصول على ما يريده ستكون محدودة بسبب قوته البدنية والقوة البدنية التنافسية للآخرين.
بالإضافة إلى ذلك فإن الصراع الحتمي على الموارد الشحيحة سيجعل الأفراد يتنافسون مع بعضهم البعض، بحيث تؤدي ممارسة الحرية دون عوائق بشكل طبيعي إلى العنف وعدم اليقين، وتكوين الدولة وإصدار القوانين العامة سيغير هذا الوضع، وبعد الحصول على السيادة سيضمن القانون حماية الأفراد لسلامتهم الشخصية وممتلكاتهم في نطاق المساواة والحرية، وذلك إذا كان القانون الذي ينطبق بالتساوي على الجميع ليس تدخليًا أو عنوة (يعتقد روسو أنه لن يكون هذا الوضع لأنّه لا يوجد لدى أحد الحافز لسن قوانين متعبة ومرهقة)، فإن هذا سيحقق فائدة صافية مقارنة بالدول ما قبل السياسية.
مفهوم الحرية المدنية لدى روسو:
للتفريق بين “الحرية الطبيعية” و “الحرية المدنية” ولتوضيح كيف يجب أن يؤدي الخضوع للإرادة العامة إلى عدم خسارة الحرية الصافية، يؤكد روسو أنّه قبل تكوين العقد الاجتماعي يتمتع الأفراد بنوع من “الحرية الطبيعية” للعمل بما يخدم مصلحتهم الخاصة وهنا مرة أخرى توضيح لمفهوم الحرية الطبيعية، حيث نظرًا لأنّ جميع البشر يتمتعون بهذه الحرية في عالم تشغله العديد من المطالب التنافسية، قد تكون القيمة العملية لهذا النوع من الحرية غير موجودة تقريبًا لأن قدرة الفرد على الحصول على احتياجاته ستكون دائمًا محدودة بقوته الجسدية فيما يتعلق الآخرين.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ ممارسة وتطبيق الحرية الطبيعية دون عوائق تضع الأفراد في مواجهة بعضهم البعض على الموارد النادرة مما يؤدي حتماً إلى العنف وعدم اليقين، وعلى العكس من ذلك فإنّ إنشاء السيادة يضمن للأفراد مجالًا من المساواة بموجب القانون يوفر قدرًا أكبر من الأمان في الأشخاص والممتلكات.
وإنّ فقدان الحرية الطبيعية للإرادة العامة مصحوب بمنح الحرية المدنية والتي تُعرَّف على أنّها “غياب العوائق التي تحول دون السعي لتحقيق أهداف المرء في الحالات التي يكون فيها القانون صامتًا”، شريطة ألّا يكون القانون تطفلًا أو تدخليًا (ويعتقد روسو أنّه لن يكون كذلك حيث لا يوجد لدى أي فرد دافع لتشريع قوانين مرهقة) وستكون هناك فائدة صافية مقارنة بالدولة ما قبل السياسية.
ومن خلال اقتراح عقد اجتماعي يأمل روسو في تأمين الحرية المدنية التي يجب أن تصاحب الحياة في المجتمع، وهذه الحرية يقوّضها اتفاق على عدم إلحاق الأذى بأخوانه المواطنين، ولكن هذا التقييد يقود الناس إلى أن يكونوا أخلاقيين وعقلانيين، وبهذا المعنى فإنّ الحرية المدنية أعلى من الحرية الجسدية لأنّ الناس ليسوا حتى عبيدًا لدوافعهم.
مفهوم الحرية الأخلاقية لدى روسو:
طرح روسو اقتراحًا آخر في نفس الفصل من العقد الاجتماعي، أي في ظل ظروف المجتمع المدني أدرك المواطنون “الحرية الأخلاقية” بهدف الامتثال للقوانين التي وضعها الناس لأنفسهم، على الرغم من أنّ الادعاء الأخير تم تقديمه بعد وقوع الواقعة تقريبًا، إلّا أنّ صورة الحرية التي تستجيب بشكل مباشر لتحديات روسو لنفسه في الفصلين الأولين، بما في ذلك إنشاء “شكل من أشكال الارتباط” حيث “يمكن لكل مواطن أن يطيع فقط نفسه”.
بالطبع هذا يثير تساؤلاً حول ما إذا كان المواطن يطيع نفسه بالفعل فقط عندما يطيع الإرادة العامة، ظاهريًا يبدو من الصعب التوفيق بين هذا الطرح وواقع الأغلبية والأقلية في بلد ديمقراطي ، لأنّه يبدو أنّ المواطنين الذين يجدون أنفسهم خارج التصويت ملزمون بقراراتهم المخالفة معه، ويمكن إيجاد حل روسو لهذه المشكلة في نهاية الفصل الثالث في الكتاب الرابع من “العقد الاجتماعي”، حيث أشار في الكتاب إلى أنّ أولئك الذين يلتزمون بالقوانين التي لا يصوتون لها ما زالوا أوفياء لإرادتهم الخاصة لأنّ العملية ديمقراطية تمكنهم من إيجاد محتوى الإرادة العامة التي شاركوا فيها، ولكن الناقدين والمعلقين لمسوا ضعف هذه الحجة.
مفهوم حرية جمهورية لدى روسو:
إن استدعاء روسو للأنواع الثلاثة للحرية (الحرية الطبيعية والمدنية والأخلاقية) في نص العقد الاجتماعي يبدو محيرًا، وتزداد الصورة تعقيدًا بسبب حقيقة أنها تعتمد أيضًا على المفهوم الرابع للحرية المتعلقة بالحريات المدنية، ولكن على عكس ذلك قد يكون مختلفًا عن ما سبق والذي لم يتم ذكر اسمه بوضوح في أي مكان.
هذا نوع من الحرية هو “الحرية الجمهورية”، ليس الأمر أنني الاستسلام للإرادة الخاصة، لكن القانون يحمي الفرد من الخضوع لإرادة أي شخص معين في صورة عبد، ولا بد أنّ روسو لا يبدو داعمًا بشأن هذه الفكرة ويبدو ذلك جليًا في الملاحظات الغير منشورة في العقد الاجتماعي، ومع ذلك فإنّ هذا المفهوم مضّمن بوضوح في قسم “الإجبار على أن يكون حراً” في الكتاب الأول من الفصل السابع أخذ سمعة سيئة ، لأنه يناقش بشكل جلي أنّه عندما يكون كل مواطن ملزمًا بإطاعة الإرادة العامة لأنّه يتم تأمين الضمانات لمواجهة “كل التبعية الشخصية”.
مفهوم الدين المدني لدى روسو:
يشرح الفصل الكامل الأخير من العقد الاجتماعي عقيدة روسو عن الدين المدني، ولقد أصاب القراء المعاصرون بالذهول ولا سيما من خلال ادعائها أنّ المسيحية الحقيقية (الأصلية أو المبكرة) لا فائدة منها في تعزيز روح الوطنية التضامن الاجتماعي الضروري لبلد غني فمن نواح كثيرة هذا الفصل يتعارض مع الموضوعات أساسية ورئيسية للكتاب لعدة أسباب منها:
- أولاً هذه هي المناسبة الوحيدة لروسو لوصف المحتوى القانوني الذي يجب أن تمتلكه الجمهورية العادلة.
- ثانيًا إنه بمثابة قبول التعددية الحتمية في القضايا الدينية وبالتالي قبول التسامح الديني، المتوتر إلى حد ما، وفي الوقت نفسه تشجيعه على أن يصبح بيئة مواتية لظهور الإرادة العامة في الأماكن التي تكون فيها الثقافات الأخرى متجانسة.
- ثالثًا إنّه يعد مثالًا تطبيقي لمفهوم السلطة السيادية، وذلك من بعد أن أصر روسو (ومن قبله جون لوك) على أنّ المستبدين لا يمكنهم دراسة الأفكار الخاصة للمواطنين.
تتضمن مبادئ روسو الدينية المدنية الادعاء بأنّ الوجود الأعلى والحياة الآخرة، والادعاء بأنّ العدالة ستنجح وأنّ الشر سيعاقب والادعاء بأنّ العقد الاجتماعي والقانون مقدسان.
مفهوم التسامح لدى روسو:
بالإضافة إلى ذلك ينص هذا الدين المدني على ضرورة التسامح مع جميع الأشخاص الذين يرغبون في تحمل الآخرين، لكن مع إصرار أولئك الذين يعتقدون أنّ دينهم هو الحق وأنّم من الصعب أن يتعايشون في دولة خارج ديانتهم، إن أساس المعتقدات والأفكار الدينية في بلد عادل هي إجماع مترابط، مما يعني أن المعتقدات الدينية للمواطنين والمدنيين يمكن تأكيدها من قبل المؤمنين بالعديد من الأديان المختلفة (مثل المسيحيين وغير المسيحيين).
على الرغم من اهتمام روسو بالتسامح الديني في الفصول الدراسية وأماكن أخرى فإنّ القراء المعاصرين غالبًا ما يتأثرون ببيان صادم من عدم التسامح، لأن روسو يعتقد أن الأشخاص الذين لا يستطيعون قبول العقيدة سيتم طردهم من قبل الدولة، وهذا لاعتقاد أنّ الملحدين الذين لا يخافون من عقاب الله لن يقنعهم مواطنوهم ويطيعون القانون، كما يوصي بعقوبة الإعدام لمن يؤكد معتقداتهم ولكن يعبرون عن عدم إيمانهم.